فصل: تفسير الآية رقم (52)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى‏}‏‏.‏ لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار المذكورين لعلهم ينتظمون في سلك المتقين نهي عليه الصلاة والسلام عن كون ذلك بحيث يؤدي إلى طردهم؛ ويفهم من بعض الروايات أن الآيتين نزلتا معاً ولا يفهم ذلك من البعض الآخر، فقد أخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «مر الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا‏:‏ يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك أهؤلاء من الله تعالى عليهم من بيننا أنحن نكون تبعاً لهؤلاء اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فأنزل الله تعالى فيهم القرآن ‏{‏وَأَنذِرْ بِهِ الذين‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والله أَعْلَمُ بالظالمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 51 58‏]‏‏.‏

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي في «الدلائل»‏.‏ وغيرهم عن خباب رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع بلال وصهيب‏.‏ وعمار وخباب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به فقالوا‏:‏ نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب له فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا قعوداً مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال‏:‏ نعم قالوا‏:‏ فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً فدعا بالصحيفة ودعا علياً كرم الله تعالى وجهه ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بهذه الآية ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين‏}‏ الخ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول‏:‏ ‏{‏سلام عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏ فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تعالى ‏{‏واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ الخ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم‏.‏

وأخرج ابن المنذر وغيره عن عكرمة قال‏:‏ مشى عتبة وشيبة ابنا ربيعة وقرظة بن عمرو بن نوفل والحرث بن عامر بن نوفل ومطعم بن عدي في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا‏:‏ لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد والحلفاء كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه فذكر ذلك أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه‏:‏ لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم‏:‏ وما يصيرون إليه من أمرهم فأنزل الله سبحانه ‏{‏وَأَنذِرْ بِهِ‏}‏ إلى قوله سبحانه

‏{‏أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 51 53‏]‏ وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وصبيحاً مولى أسيد، والحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم‏.‏ ونزل في أئمة الكفر من قريش والموالي‏.‏ والحلفاء ‏{‏وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 53‏]‏ الآية فلما نزلت أقبل عمر رضي الله تعالى عنه فاعتذر من مقالته فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏ الآية‏.‏

والغداة أصله غدوة قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وأصل العشي عشوي قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وفاء بالقاعدة، والظاهر أنه مفرد كالعشية وجمعه عشايا وعشيات، وقيل‏:‏ هو جمع عشية وفيه بعد، ومعنى الأول لغة البكرة أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، ومعنى الثاني آخر النهار، والمراد بهما ههنا الدوام كما يقال فعله مساء وصباحاً إذا داوم عليه، والمراد بالدعاء حقيقته أو الصلاة أو الذكر أو قراءة القرآن أقوال‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنهما عبارة عن صلاتي الصبح والعصر لأن الزمان كثيراً ما يذكر ويراد به ما يقع فيه كما يقال صلى الصبح والمراد صلاته وقد يعكس فيراد بالصلاة زمانها نحو قربت الصلاة أي وقتها، وقد يراد بها مكانها كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏ أن المراد بالصلاة المساجد، وخصا بالذكر لشرفهما‏.‏ والأقوال في الدعاء جارية على هذا القول خلا الثاني، وقرأ ابن عامر هنا وفي الكهف ‏(‏82‏)‏ ‏(‏الغدوة‏)‏ بالواو وهي قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي رجاء العطاردي وغيرهم، وزعم أبو عبيد أن من قرأ بالواو فقد أخطأ لأن غدوة علم جنس لا تدخله الألف واللام، ومنشأ خطئه أنه اتبع رسم الخط لأن الغداة تكتب بالواو كالصلاة والزكاة وقد أخطأ في هذه التخطئة لأن غدوة وإن كان المعروف فيها ما ذكره لكن قد سمع مجيؤها اسم جنس أيضاً منكراً مصروفاً فتدخلها أل حينئذ، وقد نقل ذلك سيبويه عن الخليل، وتصديره بالزعم لا يدل على ضعفه كما يشير إليه كلام الإمام النووي في «شرح مسلم» وذكره جم غفير من أهل اللغة‏.‏

وذكر المبرد أيضاً عن العرب تنكير غدوة وصرفها وإدخال اللام عليها إذا لم يرد بها غدوة يوم بعينه والمثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكفى بوروده في القراءة المتواترة حجة فلا حاجة كما قيل إلى التزام أنها علم لكنها نكرت فدخلتها أل لأن تنكير العلم وإدخال أل عليه أقل قليل في كلامهم بل إن تنكير علم الجنس لم يعهد ولا إلى التزام أنها معرفة ودخلتها اللام لمشاكلة العشي كما دخلت على يزيد لمشاكلة الوليد في قوله

‏:‏ رأيت الوليد بن اليزيد مباركا *** شديداً بأعباء الخلافة كاهله

لأن هذا النوع من المشاكلة وهو المشاكلة الحقيقية قليل أيضاً، والكثير في المشاكلة المجاز ولا دلالة في الآية على أنه صلى الله عليه وسلم وقع منه الطرد ليخدش وجه العصمة، والذي تحكيه الآثار أنه عليه الصلاة والسلام هم أن يجعل لأولئك الداعين المتقين وقتاً خاصاً ولأشراف قريش وقتاً آخر ليتآلفوا فيقودهم إلى الإيمان؛ وأولئك رضي الله تعالى عنهم يعلمون ما قصد صلى الله عليه وسلم فلا يحصل لهم إهانة وانكسار قلب منه عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏‏.‏ وفي المراد بالوجه عند المؤولين خلاف فقيل وهو المشهور إنه الذات أي مريدين ذاته تعالى، ومعنى إرادة الذات على ما قيل الإخلاص لها بناء على استحالة كون الله تعالى مراداً لذاته سبحانه وتعالى لأن الإرادة صفة لا تتعلق إلا بالممكنات لأنها تقتضي ترجيح أحد طرفي المراد على الآخر وذلك لا يعقل إلا فيها أي يدعون ربهم مخلصين له سبحانه فيه، وقيد بذلك لتأكيد عليته للنهي فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد، وقيل‏:‏ المراد به الجهة والطريق، والمعنى مريدين الطريق الذي أمرهم جل شأنه بإرادته وهو الذي يقتضيه كلام الزجاج، وقيل‏:‏ «إنه كناية عن المحبة وطلب الرضا لأن من أحب ذاتاً أحب أن يرى وجهه فرؤية الوجه من لوازم المحبة فلهذا ‏(‏السبب‏)‏ جعل ‏(‏الوجه‏)‏ ‏(‏2‏)‏ كناية عنها قاله الإمام وهو كما ترى وجوز أيضاً أن يكون ذكر الوجه للتعظيم كما يقال‏:‏ هذا وجه الرأي وهذا وجه الدليل، والمعنى يريدونه2‏.‏

‏{‏مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء‏}‏ ضمير الجمع للموصول السابق كما روي عن عطاء وغالب المفسرين‏.‏ وجوز في ‏(‏ما‏)‏ أن تكون تميمية وحجازية وفي ‏{‏شَىْء‏}‏ أن يكون فاعل الظرف المعتمد على النفي و‏{‏مِنْ حِسَابِهِم‏}‏ وصف له قدم فصار حالاً، وأن يكون في موضع رفع بالابتداء والظرف المتقدم متعلق بمحذوف وقع خبراً مقدماً له و‏{‏مِنْ‏}‏ زائدة للاستغراق، وكلام الزمخشري يشير إلى اختياره، والجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه تقريراً له ودفعاً لما عسى أن يتوهم كونه مسوغاً لطرد المتقين من أقاويل الطاعنين في دينهم كدأب قوم نوح عليه السلام حيث قالوا‏:‏ ‏{‏مَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏، والمعنى ما عليك شيء ما من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة كما يقوله المشركون حتى تتصدى له وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام وإنما وظيفتك حسبما هو شأن منصب الرسالة النظر إلى ظواهر الأمور وإجراء الأحكام على موجبها وتفويض البواطن وحسابها إلى اللطيف الخبير، وظواهر هؤلاء دعاء ربهم بالغداة والعشي وروي عن ابن زيد أن المعنى ما عليك شيء من حساب رزقهم أي من فقرهم، والمراد لا يضرك فقرهم شيئاً ليصح لك الإقدام على ما أراده المشركون منك فيهم‏.‏

‏{‏وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء‏}‏ عطف على ما قبله، وجيء به مع أن الجواب قد تم بذلك مبالغة في بيان كون انتفاء حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلاً وهو انتفاء كون حسابه صلى الله عليه وسلم عليهم فهو على طريقة قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 34، والنحل‏:‏ 61‏]‏ في رأي‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ «إن الجملتين في معنى جملة واحدة تؤدي مؤدي ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 18‏]‏ كأنه قيل‏:‏ لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه، وحينئذ لا بد من الجملتين»، وتعقب بأنه غير حقيق بجلالة التنزيل‏.‏ وتقديم خطابه صلى الله عليه وسلم في الموضعين قيل للتشريف له عليه أشرف الصلاة وأفضل السلام وإلا كان الظاهر وما عليهم من حسابك من شيء بتقديم على ومجرورها كما في الأول، وقيل‏:‏ إن تقديم عليك في الجملة الأولى للقصد إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به صلى الله عليه وسلم إذ هو الداعي إلى تصديه عليه الصلاة والسلام لحسابهم‏.‏

وذهب بعض المفسرين إلى أن ضمير الجمع للمشركين وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى إنك لا تؤاخذ بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين، والضمير في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَتَطْرُدَهُمْ‏}‏ للمؤمنين على كل حال، والفعل منصوب على أنه جواب النفي، والمراد انتفاء الطرد لا انتفاء كون حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام ضرورة انتفاء المسبب لانتفاء سببه كأنه قيل‏:‏ ما يكون منك ذلك فكيف يقع منك طرد وهو أحد معنيين في مثل هذا التركيب يمتنع ثانيهما هنا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَكُونَ مِنَ الظالمين‏}‏ جواب النهي، وجوز الإمام والزمخشري أن يكون عطفاً على ‏{‏فَتَطْرُدَهُمْ‏}‏ على وجه التسبب لأن الكون ظالماً معلول طردهم وسبب له‏.‏ واعترض بأن الاشتراك في النصب بالعطف يقتضي الاشتراك في سبب النصب وهو توقف الثاني على الأول بحيث يلزم من انتفاء الأول انتفاؤه والكون من الظالمين منتف سواء لوحظ ابتداء أو بعد ترتبه على الطرد وجعله مترتباً على الطرد بلا اعتبار كونه مترتباً على المنفي ومنتفياً بانتفائه يفوت وجود سببية العطف‏.‏ وأجيب بأن الظلم بالطرد يتوقف انتفاؤه على انتفاء الرد كما لا يتوقف وجوده على وجوده وانتفاء الطرد متوقف على انتفاء كون حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام فانتفاء الظلم بالطرد يتوقف على ذلك أيضاً فيلزم من الانتفاء الانتفاء ويتحقق الاشتراك في سبب النصب وهو ظاهر وإنكاره مكابرة‏.‏ واعترض أيضاً بأن العطف مؤذن بأن عدم الظلم لعدم تفويض الحساب إليه صلى الله عليه وسلم فيفهم منه أنه لو كان حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم وطردهم لكان ظلماً وليس كذلك لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه‏.‏

وأجيب بأنه على حد «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه»‏.‏ وفي «الكشف» في بيان مراد صاحب «الكشاف» أنه أراد أن الطرد سبب للظلم فقيل‏:‏ ما عليك من حسابهم لتطردهم فتظلم به ويفهم منه أنه لو كان عليه حسابهم لم يكن طرده إياهم ظلماً وذلك لأن الطرد جعل سبباً للظلم على تقدير أن لا يملك حسابهم وعليه لا حاجة إلى جعله على حد نعم العبد الخ بل هو خروج عن الحد، وجوز بعضهم أن يكون الأول جواباً للنهي كما جاز أن يكون جواباً للنفي، ونقل عن «الدر المصون» وقال‏:‏ الكلام عليه بحسب الظاهر ولا تطردهم فتطردهم وهو كما ترى، وجعل بعضهم اجتماع ذينك النفيين السابقين على هذا الجواب من قبيل التنازع خلا أنه لا يمكن كون الجواب للثاني بوجه أصلاً إذ يلزم المعنى حينئذ أنه لو كان عليهم شيء من حسابه عليه الصلاة والسلام كان طرده إياهم حسناً وهو خلف لا يجوز حمل القرآن عليه وليس في هذا خروج عن مختار البصريين لإعمال الثاني لأن شرطه عندهم أن يكون المعنى مستقيماً فيهما فإن لم يستقم أعمل الأول اتفاقاً كما في قوله‏:‏ ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة *** كفاني ولم أطلب قليل من المال

وأنت إذا علمت أن الجملة الثانية لماذا أتى بها علمت ما في هذا الكلام فافهم؛ وأياً ما كان فالمراد فتكون من الظالمين لأنفسهم أو لأولئك المؤمنين أو فتكون ممن اتصف بصفة الظلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك فَتَنَّا‏}‏ أي ابتلينا واختبرنا ‏{‏بَعْضَهُم بِبَعْضٍ‏}‏ والمراد عاملناهم معاملة المختبر وذلك إشارة إلى الفتن المذكور في النظم الكريم، وعبر عنه بذلك إيذاناً بتفخيمه كقولك‏:‏ ضربت ذلك الضرب‏.‏ والكاف مقحمة بمعنى أن التشبيه غير مقصود منها بل المقصود لازمه الكنائي أو المجازي وهو التحقق والتقرر وهو إقحام مطرد وليست زائدة كما توهم‏.‏ والمعنى مثل ذلك الفتن العظيم البديع فتنا بعض الناس ببعضهم حيث قدمنا الآخرين في أمر الدين على الأولين المتقدمين عليهم في أمر الدنيا، ويؤول إلى أن هذا الأمر العظيم متحقق منا‏.‏ ومن ظنَّ أن التشبيه هو المقصود لم يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى المذكور لما يلزمه من تشبيه الشيء بنفسه‏.‏ وتكلف لوجه التشبيه والمغايرة بجعل المشبه به الأمر المقرر في العقول والمشبه ما دل عليه الكلام من الأمر الخارجي، وقيل‏:‏ المراد مثل ما فتنا الكفار بحسب غناهم وفقر المؤمنين حتى أهانوهم لاختلافهم في الأسباب الدنيوية فتناهم بحسب سبق المؤمنين إلى الإيمان وتخلفهم عنه حتى حسدوهم وقالوا ما قالوا لاختلاف أديانهم، ولا يخفى أن الأول أدق نظراً وأعلى كعباً وقد سلف بعض الكلام على ذلك‏.‏

‏{‏لّيَقُولواْ‏}‏ أي البعض الأولون مشيرين إلى الآخرين محقرين لهم ‏{‏أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم‏}‏ بأن وفقهم لإصابة الحق والفوز بما يسعدهم عنده سبحانه ‏{‏مّن بَيْنِنَا‏}‏ أي من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء وغرضهم بذلك إنكار المن رأساً على حد قولهم‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 11‏]‏ لا تحقير الممنون عليهم مع الإعتراف بوقوعه بطريق الاعتراض عليه سبحانه، وذكر الإمام «أنه سبحانه وتعالى بين في هذه الآية أن كلاً من الفريقين المؤمنين والكفار مبتلى بصاحبه فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كونهم سابقين في الإسلام متسارعين إلى قبوله فقالوا‏:‏ لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء وكان ذلك يشق عليهم‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 25‏]‏‏.‏ و‏{‏لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ‏}‏ وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحة والمسرة والخصب والسعة فكانوا يقولون‏:‏ كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء الكفار مع أنا ‏(‏بقينا‏)‏ في الشدة والضيق والقلة‏.‏‏.‏‏.‏ وأما المحققون المحقون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله تعالى فهو حق وصدق وحكمة وصواب ولا اعتراض عليه إما بحكم المالكية كما نقول أو بحسب المصلحة كما يقول المعتزلة» انتهى‏.‏ وفيه نظر لأن صدر كلامه صريح في أن الكفار معترفون بوقوع المن للمشار إليهم حاسدون لهم على وقوعه وهو مناف لتنظيره بقولهم‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ خَيْراً‏}‏ الخ‏.‏

وأيضاً كلامه كالصريح في أن فقراء المؤمنين حسدوا الكفار على دنياهم واعترضوا على الله سبحانه بالترفيه على أعدائه والتضييق على أحبائه وذلك مما يجل عنه أدنى المؤمنين فكيف أولئك الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وأيضاً مقابلة فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالمحققين المحقين يدل على أنهم وحاشاهم لم يكونوا كذلك وهو بديهي البطلان عند المحققين المحقين فتدبر‏.‏

واللام ظاهرة في التعليل وهي متعلقة بفتنا وما بعدها علة له‏.‏ والسلف كما قال شيخنا إبراهيم الكوراني وقاضي القضاة تقي الدين محمد التنوخي وغيرهما على إثبات العلة لأفعاله تعالى استدلالاً بنحو عشرة آلاف دليل على ذلك‏.‏ واحتج النافون لذلك بوجوه ردها الثاني في «المحتبر»، وذكر الأول في «مسلك السداد» ما يعلم منه ردها، وهذا بحث قد فرغ منه وطوي بساطه، وقال غير واحد‏:‏ هي لام العاقبة، ونقل عن «شرح المقاصد» ما يأتي ذلك وهو أن لام العاقبة إنما تكون فيما لا يكون للفاعل شعور بالترتب وقت الفعل أو قبله فيفعل لغرض ولا يحصل له ذلك بل ضده فيجعل كأنه فعل الفعل لذلك الغرض الفاسد تنبيهاً على خطئه ولا يتصور هذا في كلام علام الغيوب بالنظر إلى أفعاله وإن وقع فيه بالنظر إلى فعل غيره سبحانه كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ إذ ترتب فوائد أفعاله تعالى عليها مبنية على العلم التام، نعم إن ابن هشام وكثيراً من النحاة لم يعتبروا هذا القيد، وقالوا‏:‏ إنها لام تدل على الصيرورة والمآل مطلقاً فيجوز أن تقع في كلامه تعالى حينئذ على وجه لا فساد فيه، ومن الناس من قال‏:‏ إنها للتعليل مقابلاً به احتمال العاقبة على أن ‏{‏فَتَنَّا‏}‏ متضمن معنى خذلنا أو على أن الفتن مراد به الخذلان من إطلاق المسبب على السبب‏.‏

واعترض بأن التعليل هنا ليس بمعناه الحقيقي بناء على أن أفعاله تعالى منزهة عن العلل فيكون مجازاً عن مجرد الترتب وهو في الحقيقة معنى لام العاقبة فلا وجه للمقابلة‏.‏ وأجيب بأنهما مختلفان بالاعتبار فإن اعتبر تشبيه الترتب بالتعليل كانت لام تعليل وإن لم يعتبر كانت لام عاقبة، واعترض بأن العاقبة أيضاً استعارة فلا يتم هذا الفرق إلا على القول بأنه معنى حقيقي وعلى خلافه يحتاج إلى فرق آخر، وقد يقال في الفرق إن في التعليل المقابل للعاقبة سببية واقتضاء وفي العاقبة مجرد ترتب وإفضاء وفي التعليل الحقيقي يعتبر البعث على الفعل وهذا هو مراد من قال‏:‏ إن أفعال الله تعالى لا تعلل، وحينئذ يصح أن يقال‏:‏ إن اللام على تقدير تضمين ‏{‏فَتَنَّا‏}‏ معنى خذلنا أو أن الفتن مراد به الخذلان للتعليل مجازاً لأن هناك تسبباً واقتضاء فقط من دون بعث، وعلى تقدير عدم القول بالتضمين وإبقاء اللفظ على المتبادر منه هي لام العاقبة وهو تعليل مجازي أيضاً لكن ليس فيه إلا التأدي فإن ابتلاء بعضهم ببعض مؤد للحسد وهو مؤد إلى القول المذكور وليس هناك تسبب ولا بعث أصلاً‏.‏

والحاصل أن كلاً من العاقبة والتعليل المقابل لها مجاز عن التعليل الحقيقي إلا أن التعليل المقابل أقرب إليه من العاقبة ومنشأ الأقربية هو الفارق، والبحث بعد محتاج إلى تأمل وإذا فتح لك فاشكر الله سبحانه‏.‏

‏{‏أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين‏}‏ رد لقولهم ذلك وإشارة إلى أن مدار استحقاق ذلك الإنعام معرفة شأن النعمة والاعتراف بحق المنعم‏.‏ والاستفهام للتقرير بعلمه البالغ بذلك، والباء الأولى سيف خطيب والثانية متعلقة باعلم ويكفي أفعل العمل في مثله‏.‏ وفي «الدر المصون» يتعدى بالباء لتضمنه معنى الإحاطة وهو كثير في كلام الناس نحو علم بكذا وله علم به، والمعنى أليس الله تعالى عالماً على أتم وجه محيطاً علمه بالشاكرين لنعمه حتى يستبعدوا إنعامه عز وجل عليهم، وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى عليهم من التوفيق للإيمان والسبق إليه وغير ذلك شاكرون عليه مع التعريض بأن القائلين في مهامه الضلال بمعزل عن ذلك كله ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا‏}‏ هم كما روي عن عكرمة الذين نهى صلى الله عليه وسلم عن طردهم، والمراد بالآيات القرآنية أو الحجج مطلقاً، وجوز في الباء أن تكون صلة الإيمان وأن تكون سببية أي يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به سبب نزول الآيات أو النظر فيها والاستدلال بها وفي وصف أولئك الكرام بالإيمان بعد وصفهم بما وصفهم سبحانه به تنبيه على حيازتهم لفضيلتي العلم والعمل، وتأخير هذا الوصف مع أنه كالمنشأ للوصف السابق لما أن مدار الوعد بالرحمة هو الإيمان كما أن مناط النهي عن الطرد فيما سبق هو المداومة على العبادة، وتقدم في رواية ابن المنذر عن عكرمة ما يشير إلى أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه، وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وأمر صيغة الجمع على هذا ظاهر‏.‏ وأخرج عبد بن حميد ومسدد في «مسنده» وابن جرير وآخرون عن ماهان قال‏:‏ أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إنا أصبنا ذنوباً عظاماً فما رد عليه الصلاة والسلام عليهم شيئاً فانصرفوا فأنزل الله تعالى الآية فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم‏.‏ وروي عن أنس مثل ذلك، وقيل‏:‏ لم تنزل في قوم بأعيانهم بل هي محمولة على إطلاقها واختاره الإمام‏.‏ والمشهور الأول وسياق الآية يرجح ما روي عن ماهان‏.‏

‏{‏فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ‏}‏ أمر منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يبدأهم بالسلام في محل لا ابتداء به فيه إكراماً لهم بخصوصهم كما روى عن عكرمة واختاره الجبائي، وقيل‏:‏ أمره سبحانه أن يبلغهم تحيته عز شأنه وروي ذلك عن الحسن وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ إن المعنى إقبل عذرهم واعترافهم وبشرهم بالسلامة مما اعتذروا منه‏.‏ وعليه لا يكون السلام بمعنى التحية‏.‏ وهو أيضاً مبني على سبب النزول عنده رضي الله تعالى عنه، واختار بعضهم أنه بهذا المعنى أيضاً على تقدير أن يراد بالموصول ما روي عن عكرمة فيكون الكلام أمراً له عليه الصلاة والسلام أن يبشرهم بالسلام من كل مكروه بعد إنذار مقابليهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة‏}‏ أي أوجبها على ذاته المقدسة تفضلاً وإحساناً بالذات لا بتوسط شيء ‏(‏ما‏)‏ أصلاً وفيه احتمال آخر تقدم تبشير لهم بسعة رحمة الله تعالى‏.‏ ولم يعطف على جملة السلام مع أنه محكي بالقول أيضاً قيل لأنها دعائية إنشائية، وقيل‏:‏ إشارة إلى استقلال كل من مضموني الجملتين وهما السلامة من المكاره ونيل المطالب بالبشارة‏.‏ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار للطف بهم وإشعار بعلة الحكم‏.‏ وتمام الكلام في الآية قد مر عن قريب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا‏}‏ بفتح الهمزة كما قرأ بذلك نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بدل من ‏{‏الرحمة‏}‏ كما قال أبو علي الفارسي وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مفعول ‏{‏كتاب‏}‏ و‏{‏الرحمة‏}‏ مفعول له، وقيل‏:‏ إنه على تقدير اللام، وجوز أبو البقاء أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عليه سبحانه أنه الخ ودل على ذلك ما قبله‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ بالكسر على الاستئناف النحوي أو البياني كأنه قيل‏:‏ وما هذه الرحمة‏؟‏ والضمير للشأن‏.‏ و‏(‏ من‏)‏ موصولة أو شرطية وموضعها مبتدأ و‏{‏مّنكُمْ‏}‏ في موضع الحال من ضمير الفاعل‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِجَهَالَةٍ‏}‏ حال أيضاً على الأظهر أي من عمل ذنباً وهو جاهل أي فاعل فعل الجهلة لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل الجهل والسفه لا من أهل الحكمة والتدبير أو جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة‏.‏ وعن الحسن كل من عمل معصية فهو جاهل ‏{‏ثُمَّ تَابَ‏}‏ عن ذلك ‏{‏مِن بَعْدِهِ‏}‏ أي العمل أو السوء ‏{‏وَأَصْلَحَ‏}‏ أي في توبته بأن أتى بشروطها من التدارك والعزم على عدم العود أبداً‏.‏

‏{‏فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي فشأنه سبحانه وأمره مبالغ في المغفرة والرحمة له‏.‏ فأن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، والجملة خبر ‏{‏مِنْ‏}‏ أو جواب الشرط، والخبر حينئذ على الخلاف، وقدر بعضهم فله أنه الخ أو فعليه أنه الخ، وحينئذ يجوز الرفع على الابتداء والرفع على الفاعلية، وقيل‏:‏ إن المنسبك في موضع نصب بفعل محذوف أي فليعلم أنه الخ، وقيل‏:‏ إن هذا تكرير لما تقدم لبعد العهد وقيل‏:‏ بدل منه، قال أبو البقاء‏:‏ وكلاهما ضعيف لوجهين الأول‏:‏ أن البدل لا يصحبه حرف معنى إلا أن يجعل الفاء زائدة وهو ضعيف، والثاني‏:‏ أن ذلك يؤدي إلى أن لا يبقى لمن خبر ولا جواب على تقدير شرطيتها، والتزام الحذف بعيد، وفتح الهمزة هنا قراءة من فتح هناك سوى نافع فإنه كباقي القراء قرأ بالكسر‏.‏ وأجاز الزجاج كسر الأولى وفتح الثانية، وهي قراءة الأعرج والزهري وأبي عمرو الداني، ولم يطلع على ما قيل أبو شامة عليه الرحمة على ذلك فقال‏:‏ إنه محتمل إعرابي وإن لم يقرأ به، وليس كما قال‏.‏

ومن الناس من قال‏:‏ إن هذه الآية تقوي مذهب المعتزلة حيث ذكر سبحانه في بيان سعة رحمته أن عمل السوء إذ قارن الجهل والتوبة والإصلاح فإنه يغفر، ولذا قيل‏:‏ إنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو أجبتهم لما قالوا لعل الله تعالى يأتي بهم ولم يكن يعلم المضرة ثم إنه تاب وأصلح حتى أنه بكى وقال معتذراً‏:‏ ما أردت إلا خيراً‏.‏

وأورد عليه أنه من المقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزولها في حق عمر رضي الله تعالى عنه لا يدفع الإشكال‏.‏ وتعقب بأن مراد المجيب أن اللفظ ليس عاماً وخطاب ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ لمن كان في تلك المشاورة والعامل لذلك منهم عمر رضي الله تعالى عنه فلا إشكال‏.‏ وأنت تعلم أن بناء الجواب على هذه الرواية ليس من المتانة بمكان إذ للخصم أن يقول‏:‏ لا نسلم تلك الرواية‏.‏ فلعل الأولى في الجواب أن ما ذكر في الآية إنما هو المغفرة الواجبة حسب وجوب الرحمة في صدر الآية‏.‏ ولا يلزم من تقييد ذلك بما تقدم تقييد مطلق المغفرة به‏.‏ فحينئذ يمكن أن يقال‏:‏ إنه تعالى قد يغفر لمن لم يتب مثلاً إلا أنه سبحانه لم يكتب ذلك على نفسه جل شأنه فافهم فإنه دقيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نفَصّلُ‏}‏ أي دائماً ‏{‏الايات‏}‏ أي القرآنية في صفة أهل الطاعة وأهل الإجرام المصرين منهم والأوابين‏.‏ والتشبيه هنا مثله فيما تقدم آنفاً ‏{‏وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين‏}‏ بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل وهي قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم، وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور لم يقصد تعليله بها بخصوصها، وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة من جملتها ما ذكر أو علة لفعل مقدر وهو عبارة عن المذكور كما يشير إليه أبو البقاء فيكون مستأنفاً أي ولتتبين سبيلهم نفعل ما نفعل من التفصيل‏.‏ وقرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على أن الفعل متعد أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيل المجرمين فتعاملهم بما يليق بهم‏.‏ وقرأ الباقون بالياء التحتية ورفع السبيل على أن الفعل مسند للمذكر‏.‏ وتأنيث السبيل وتذكيره لغتان مشهورتان‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ والموتى يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 63‏]‏ قال ابن عطاء‏:‏ أخبر سبحانه بهذه الآية أن أهل السماع هم الأحياء وهم أهل الخطاب والجواب‏.‏ وأخبر أن الآخرين هم الأموات‏.‏ وقال غيره‏:‏ المعنى أنه لا يستجيب إلا من فتح الله سبحانه سمع قلبه بالهداية الأصلية ووهب له الحياة الحقيقية بصفاء الاستعداد ونور الفطرة لا موتى الجهل الذين ماتت غرائزهم بالجهل المركب أو بالحجب الجبلية أو لم يكن لهم استعداد بحسب الفطرة فإنهم قد صموا عن السماع ولا يمكنهم ذلك بل يبعثهم الله تعالى إليه بالنشأة الثانية ثم يرجعون إليه سبحانه في عين الجمع المطلق للجزاء والمكافاة مع احتجابهم، وقيل‏:‏ الآية إشارة إلى أهل الصحو وأهل المحو ‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الارض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم‏}‏ حيث فطروا على التوحيد وجبلوا على المعرفة ولهم مشارب من بحر خطاب الله تعالى وأفنان من أشجار رياض كلماته سبحانه وحنين إليه عز وجل وتغريد باسمه عز اسمه‏.‏ قيل‏:‏ إن سمنون المحب كان إذا تكلم في المحبة يسقط الطير من الهواء‏.‏ وروي في بعض الآثار أن الضب بعد أن تكلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد برسالته أنشأ يقول‏:‏

ألا يا رسول الله إنك صادق *** فبوركت مهدياً وبوركت هادياً

وبوركت في الآزال حياً وميتا *** وبوركت مولوداً وبوركت ناشياً

وإن فيهم أيضاً المحتجبين ومرتكبي الرذائل وغير ذلك‏.‏ وقد تقدم الكلام في هذا المبحث مفصلاً ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب‏}‏ أي كتاب أعمالهم ‏{‏مِن شَىْء ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ في عين الجمع ‏{‏والذين كَذَّبُواْ‏}‏ لاحتجابهم بغواشي صفات نفوسهم ‏{‏بئاياتنا‏}‏ وهي تجليات الصفات ‏{‏صُمٌّ‏}‏ فلا يسمعون بآذان القلوب ‏{‏وَبُكْمٌ‏}‏ فلا ينطقون بألسنة العقول ‏{‏فِى الظلمات‏}‏ وهي ظلمات الطبيعة وغياهب الجهل ‏{‏مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ‏}‏ بإسبال حجب جلاله

‏{‏وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 39‏]‏ بإشراق سبحات جماله ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أتاكم عَذَابُ الله‏}‏ من المرض وسائر أنواع الشدائد ‏{‏أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة‏}‏ الصغرى أو الكبرى ‏{‏أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ‏}‏ لكشف ما ينالكم ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ ‏(‏الأنعام؛ 40‏)‏ ‏{‏بَلْ إياه تَدْعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 41‏]‏ لكشف ذلك‏.‏ قال بعض العارفين مرجع الخواص إلى الحق جل شأنه من أول البداية ومرجع العوام إليه سبحانه بعد اليأس من الخلق وكان هذا في وقت هذا العارف‏.‏ وأما في وقتنا فنرى العامة إذا ضاق بهم الخناق تركوا دعاء الملك الخلاق ودعوا سكان الثرى ومن لا يسمع ولا يرى‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فأخذناهم بالبأساء والضراء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 42‏]‏ أي ليطيعوا ويبرزوا من الحجاب وينقادوا متضرعين عند تجلي صفة القهر ‏{‏ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 43‏]‏ أي ما تضرعوا لقساوة قلوبهم بكثافة الحجاب وغلبة غشي الهوى وحب الدنيا وأصل كل ذلك سوء الاستعداد ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ‏}‏ فلم تسمعوا خطابه ‏{‏وأبصاركم‏}‏ فلم تشاهدوا عجائب قدرته وأسرار صنعته ‏{‏وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ‏}‏ فلم يدخلها شيء من معرفته سبحانه ‏{‏مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 46‏]‏ أي هل يقدر أحد سواه جلت قدرته على فتح باب من هذه الأبواب كلا بل هو القادر الفعال لما يريد ‏{‏قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى‏}‏ أي من حيث أنا ‏{‏خَزَائِنُ الله‏}‏ أي مقدوراته ‏{‏وَلا أَعْلَمُ‏}‏ أي من حيث أنا أيضاً ‏{‏الغيب وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ‏}‏ أي روح مجرد لا أحتاج إلى طعام ولا شراب ‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ‏}‏ أي من تلك الحيثية ‏{‏إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ‏}‏ من الله تعالى‏.‏ وله صلى الله عليه وسلم مقام ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏‏.‏ و‏{‏إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ وليس لطير العقل طيران في ذلك الجو ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى‏}‏ عن نور الله تعالى وإحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى وظهوره بما شاء حسب الحكمة وعدم تقييده سبحانه بشيء من المظاهر ‏{‏والبصير‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 50‏]‏ بذلك فيتكلم في كل مقام بمقال ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ‏}‏ أي لأجل التربية والتهذيب والامتحان ‏{‏الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ‏}‏ الذي أوصلهم حيث أوصلهم من معارج الكمال ‏{‏بالغداة‏}‏ أي وقت تجلي الجمال ‏{‏والعشى‏}‏ أي وقت تجلي العظمة والجلال ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ أي يريدونه سبحانه بذاته وصفاته ويطلبون تجليه عز وجل لقلوبهم ‏{‏مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم‏}‏ أي حساب أعمالهم القلبية من شيء لأن الله تعالى قد تولى حفظ قلوبهم وأمطر عليها سحائب عنايته فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء‏}‏ عطف على سابقه أتى به للمبالغة على ما مر في العبارة‏.‏

ويحتمل أن يراد لا تطرد السالكين لأجل المحجوبين فما عليك من حساب السالكين أو المحجوبين شيء ومعنى ذلك يعرف بأدنى التفات ‏{‏فَتَطْرُدَهُمْ‏}‏ عن الجلوس معك ‏{‏فَتَكُونَ مِنَ الظالمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏ لهم بنقص حقوقهم وعدم القيام برعاية شأنهم‏.‏ ومن المؤولين من قال‏:‏ إن الآية في أهل الوحدة أي لا تزجر الواصلين الكاملين ولا تنذرهم فإن الإنذار كما لا ينجع في الذين قست قلوبهم لا ينجع في الذين طاشوا وتلاشوا في الله تعالى وهم الذين يخصونه سبحانه بالعبادة دائماً بحضور القلب وعدم مشاهدة شيء سواه حتى ذواتهم ‏{‏مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم‏}‏ فيما يعملون ‏{‏مِن شَىْء‏}‏ إذ لا واسطة بينهم وبين ربهم ‏{‏وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء‏}‏ أي لا يخوضون في أمور دعوتك بنصر وإعانة لاشتغالهم به سبحانه عمن سواه ودوام حضورهم معه ‏{‏فَتَطْرُدَهُمْ‏}‏ عما هم عليه من دوام الحضور بدعوتك لهم لشغل ديني ‏{‏فَتَكُونَ مِنَ الظالمين‏}‏ لتشويشك عليهم أوقاتهم، والله تعالى أعلم بحقيقة كلامه ‏{‏وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ‏}‏ أي الناس وهم المحجوبون ‏{‏بِبَعْضِ‏}‏ وهم العارفون ‏{‏لّيَقُولواْ‏}‏ أي المحجوبون مشيرين إلى العارفين مستحقرين لهم حيث لم يروا منهم سوى حالهم في الظاهر وفقرهم ولم يروا قدرهم ومرتبتهم وحسن حالهم في الباطن وغرهم ما هم فيه من المال والجاه والتنعم وخفض العيش ‏{‏أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم‏}‏ بالهداية والمعرفة ‏{‏مّن بَيْنِنَا‏}‏ أرادوا أنه سبحانه لم يمن عليهم ‏{‏أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 53‏]‏ أي الذين يشكرونه حق شكره فيمن عليهم بعظيم جوده ‏{‏وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا‏}‏ أي بواسطتها ‏{‏فَقُلْ‏}‏ لهم أنت أيها الوسيلة‏:‏ ‏{‏سلام عَلَيْكُمُ‏}‏ وهذا لأنهم في مقام الوسائط ولو بلغوا إلى درجة أهل المشاهدة لمنحهم سبحانه بسلامه كما قال عز شأنه ‏{‏سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ‏}‏ ‏[‏ياس‏:‏ 58‏]‏ وباقي الآية ظاهر‏.‏ وقال الإمام الرازي‏:‏ «إن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءكَ‏}‏ الخ مشتمل على أسرار عالية وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى وآيات صفات جلاله وإكرامه ‏(‏وكبريائه‏)‏ وآيات وحدانيته وما سواه سبحانه لا نهاية له ‏(‏وما لا نهاية له‏)‏ ‏(‏1‏)‏ فلا سبيل للعقل إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار‏.‏ ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات، وهذا ‏(‏شرح إجمالي‏)‏ لا نهاية لتفاصيله‏.‏ ثم إن العبد إذا صار موصوفاً بهذه الصفة فعند هذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم‏:‏ ‏{‏سلام عَلَيْكُمُ‏}‏ فيكون هذا التسليم بشارة بحصول السلامة‏.‏

وقوله سبحانه ‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة‏}‏ بشارة بحصول ‏(‏الكرامة‏)‏ عقيب تلك السلامة‏.‏ أما السلامة فبالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانية ومعدن الآفات ‏(‏والمخافات‏)‏ وموضع التغيرات والتبدلات، وأما الكرامة فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات القدسيات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال» انتهى‏.‏ وقال آخر‏:‏ الإشارة إلى نوع من السالكين أي إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا بمحو صفاتهم في صفاتنا ‏{‏فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ‏}‏ لتنزهكم عن عيوب صفاتكم وتجردكم عن ملابسها ‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة‏}‏ أي ألزم ذاته المقدسة رحمة إبدال صفاتكم بصفاته لكم لأن في الله سبحانه خلفاً عن كل ما فات ‏{‏إِنَّهُ مِنَ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ‏}‏ أي ظهر عليه في تلوينه صفة من صفاته بغيبة أو غفلة ‏{‏ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ‏}‏ أي بعد ظهور تلك الصفة بأن رجع عن تلوينه وفاء إلى الحضور ‏{‏وَأَصْلَحَ‏}‏ أي ما ظهر منه بالخضوع والتضرع بين يديه سبحانه والرياضة ‏(‏فأنه‏)‏ عز شأنه ‏{‏غَفُورٌ‏}‏ يسترها عنه ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏ يرحمه بهبة التميكن ونعمة الاستقامة ‏{‏وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الايات‏}‏ أي مثل ذلك التبيين الذي بيناه لهؤلاء المؤمنين نبين لك صفاتنا ‏{‏وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 55‏]‏ وهم المحجوبون بصفاتهم الذين يفعلون لذلك ما يفعلون‏.‏ والله تعالى الموفق للصواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنّى نُهِيتُ‏}‏ أمر له صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى خطاب المصرين على الشرك إثر ما أمر بمعاملة من عداهم بما يليق بحالهم أي قل لهم قطعاً لأطماعهم الفارغة عن ركونك إليهم وبياناً لكون ما هم عليه هوى محضاً وضلالاً صرفاً إني صرفت ومنعت بالأدلة الحقانية والآيات القرآنية ‏{‏أَنْ أَعْبُدَ الذين‏}‏ أي عن عبادة الآلهة الذين ‏{‏تَدْعُونَ‏}‏ أي تعبدونهم أو تسمونهم آلهة ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ سواء كانوا ذوي عقول أم لا‏.‏ وقد يقال‏:‏ إن المراد بهم الأصنام إلا أنه عبر بصيغة العقلاء جرياً على زعمهم ‏{‏قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ‏}‏ تكرير الأمر مع قرب العهد اعتناء بشأن المأمور به وإيذاناً باختلاف القولين من حيث إن الأول‏:‏ حكاية لما مر من جهته تعالى من النهي والثاني‏:‏ ‏(‏حكاية‏)‏ لما من جهته عليه الصلاة والسلام من الانتهاء عن عبادة ما يعبدون‏.‏ وفي هذا القول استجهال لهم وتنصيص على أنهم فيما هم فيه من عبادة غير الله تعالى تابعون لأهواء باطلة وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلاً وإشعار بما يوجب النهي والانتهاء‏.‏ وفيه كما قيل إشارة إلى عدم كفاية التقليد الصرف في مثل هذه المطالب، وقيل وهو في غاية البعد إن المراد لا أتبع أهواءكم في طرد المؤمنين‏.‏

‏{‏قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً‏}‏ أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت‏.‏ وهو استئناف مؤكد لانتهائه عليه الصلاة والسلام عما نهي عنه مقرر لكونه في غاية الضلال‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب ‏{‏ضَلَلْتُ‏}‏ بكسر اللام وهو لغة فيه، والفتح كما قال أبو عبيدة هو الغالب‏.‏

‏{‏وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين‏}‏ عطف على ما قبله، والعدول إلى الإسمية للدلالة على الدوام والاستمرار أي دوام النفي واستمراره لا نفي الدوام والاستمرار، والمراد كما قيل، وما أنا إذاً في شيء من الهدى حتى أعد في عدادهم، وفيه تعريض بأن المقول لهم كذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ‏}‏ ‏(‏تبيين‏)‏ للحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان لاتباعه إياه إثر إبطال الباطل الذي فيه الكفرة وبيان عدم اتباعه عليه الصلاة والسلام له في وقت من الأوقات‏.‏ والبينة كما قال الراغب الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر أو الحجة الفاصلة بين الحق والباطل على أنها من البينونة أي الانفصال، وأياً ما كان فالمراد بها القرآن كما قال الجبائي وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد إني على يقين‏.‏ وعن الحسن أن المراد بها النبوة وهو غير ظاهر كتفسيرها بالحجج العقلية أو ما يعمها، والتنوين للتفخيم أي بينة جليلة الشأن‏.‏

‏{‏مّن رَّبّى‏}‏ أي كائنة من جهته سبحانه‏.‏ ووصفها بذلك لتأكيد ما أفاده التنوين‏.‏ وجوز أن تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ اتصالية، وفي الكلام مضاف أي بينة متصلة بمعرفة ربي، وقيل‏:‏ هي أجلية متعلقة بما تعلق به الخبر ويقدر المضاف أيضاً أي كائن على بينة لأجل معرفة ربي والأول أظهر، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التشريف ورفع المنزلة ما لا يخفى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبْتُم بِهِ‏}‏ كما قال أبو البقاء جملة إما مستأنفة أو حالية بتقدير قد في المشهور جيء بها لاستقباح مضمونها واستبعاد وقوعه مع تحقق ما يقتضي عدمه أو للتفرقة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم، والضمير للبينة، والتذكير باعتبار المعنى المراد، وقال الزجاج‏:‏ لأنها بمعنى البيان، وجوز أن يكون الضمير لربي على معنى إن صدقت به ووحدته وأنتم كذبتم به وأشركتم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ‏}‏ استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لتكذيبهم بالقرآن وهو عدم مجىء ما وعد فيه من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم بطريق الاستهزاء أو الإلزام بزعمهم ‏{‏متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏ وقال الإمام‏:‏ «إنه عليه الصلاة والسلام كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك، والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك ‏(‏ العذاب‏)‏ فقال لهم‏:‏ ‏{‏مَا عِندِى‏}‏» الخ وكأن الكلام مبين أيضاً لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لعدم الالتفات إلى نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عنه والإخبار بنزول العذاب بسببه أي ليس عندي ما يستعجلونه من العذاب الموعود به وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيب القرآن أو عدم الالتفات إلى النهي عنه والوعيد عليه في حكمي وقدرتي حتى أجىء به أي ليس أمره مفوضاً إليّ‏.‏

‏{‏إِنِ الحكم‏}‏ أي ما الحكم في تأخير ذلك ‏{‏أَلاَ لِلَّهِ‏}‏ وحده من غير أن يكون لغيره سبحانه دخل ما فيه بوجه من الوجوه‏.‏

واختار بعضهم التعميم في متعلق الحكم أي ما الحكم في ذلك تأخيراً أو تعجيلاً أو ما الحكم في جميع الأشياء فيدخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً؛ ورجح الأول بأن المقصود من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنِ الحكم‏}‏ الخ التأسف على وقوع خلاف المطلوب كما يشهد به موارد استعماله وهو على التأخير فقط‏.‏

‏{‏يَقُصُّ‏}‏ أي يتبع ‏{‏الحق‏}‏ والحكمة فيما يحكم به ويقدره كائناً ما كان أو يبينه بياناً شافياً من قص الأثر أو الخبر وهو من قبيل التكميل للخاص على ما اخترناه بإردافه بأمر عام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقرأ الكسائي وغيره «يقضي» من القضاء وحذفت الياء في الخط تبعاً لحذفها في اللفظ لالتقاء الساكنين، وأصله أن يتعدى بالباء لا بنفسه فنصب ‏{‏الحق‏}‏ إما على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف قامت مقامه أي يقضي القضاء الحق أو على أنه مفعول به ويقضي متضمن معنى ينفذ أو هو متعد من قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره كقول الهذلي‏:‏ مسرودتان قضاهما داود‏.‏ وفي الكلام على هذا استعارة تبعية‏.‏

واحتج مجاهد للقراءة الأولى بعدم الباء المحتاج إليها في الثانية وقد علمت فساده‏.‏ واحتج أبو عمرو للثانية بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين‏}‏ فإن الفصل إنما يكون في القضاء لا في القصص ولو كان ذلك في الآية لقيل خير القاصين‏.‏ وأجاب أبو علي الفارسي بأن القصص ههنا بمعنى القول وقد جاء الفصل فيه قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 13‏]‏ ‏{‏كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته ثُمَّ فُصّلَتْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏وَنُفَصّلُ الايات‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏ على أنك تعلم بأدنى التفات إلى أن القص هنا قد يؤول بلا تكلف وبعد إلى معنى القضاء‏.‏ وفي «إرشاد العقل السليم» أن أصل القضاء الفصل بتمام الأمر وأصل الحكم المنع فكأنه يمنع الباطل عن معارضة الحق أو الخصم عن التعدي إلى صاحبه، وجملة ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ‏}‏ الخ تذييل مقرر لمضمون ما قبله مشير إلى أن قص الحق ههنا بطريق خاص هو الفصل بين الحق والباطل فافهم‏.‏

واحتج بعض أهل «السنة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنِ الحكم‏}‏ الخ لإفادته الحصر على أنه لا يقدر العبد على شيء من الأشياء إلا إذا قضى الله تعالى به فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله تعالى به وحكم، وكذلك في جميع الأفعال‏.‏ وقالت المعتزلة‏:‏ إن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَقْضِى الحق‏}‏ معناه أن كل ما يقضي به فهو الحق، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر والمعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق» ولا يخفى ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى‏}‏ أي في قدرتي وإمكاني ‏{‏مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ‏}‏ من العذاب ‏{‏لَقُضِىَ الامر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ‏}‏ أي بأن ينزل عليكم إثر استعجالكم، وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعين الفاعل الذي هو الله جلت عظمته وتهويل الأمر ومراعاة حسن الأدب ما لا يخفى‏.‏ وقال الزمخشري ومن تبعه‏:‏ «المعنى لو كان ذلك في مكنتي لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي عز وجل وامتعاضاً من تكذيبكم به ولتخلصت منكم سريعاً»، ولا يساعده المقام، ومثله حمل ‏{‏مَا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ‏}‏ على الآيات المقترحة وقضاء الأمر على قيام الساعة‏.‏

‏{‏والله أَعْلَمُ بالظالمين‏}‏ أي بحالهم وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب، ولذلك لم يفوض الأمر إلي ولم يقض بتعجيل العذاب، والجملة مقررة لما أفادته الجملة الامتناعية من انتفاء كون أمر العذاب مفوضاً إليه عليه الصلاة والسلام المستتبع لانتفاء قضاء الأمر وتعليل له‏.‏ وقيل‏:‏ هي في معنى الاستدراك كأنه قيل‏:‏ لو قدرت أهلكتكم ولكن الله تعالى أعلم بمن يهلك من غيره وله حكمة في عدم التمكين منه، وأياً ما كان فلا حاجة إلى حذف مضاف، وزعم بعضهم ذلك، والتقدير وقت عقوبة الظالمين وهو كما ترى والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب‏}‏ أي مفاتيحه كما قرىء به فهو جمع مفتح بكسر الميم وهو كمفتاح آلة الفتح، وقيل‏:‏ إنه جمع مفتاح كما قيل في جمع محراب محارب، والكلام على الاستعارة حيث شبه الغيب بالأشياء المستوثق منها بالأقفال‏.‏ وأثبت له المفاتيح تخييلاً وهي باقية على معناها الحقيقي، وجعلها بمعنى العلم قرينة المكنية بناءً على أنه لا يلزم أن تكون حقيقة بعيد، وأبعد منه تكلف التمثيل‏.‏ وقيل‏:‏ الأقرب أن يعتبر هناك استعارة مصرحة تحقيقية بأن يستعار العلم للمفاتح وتجعل القرينة الإضافة إلى الغيب‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أن المراد من المفاتح الخزائن فهي حينئذٍ جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن‏.‏ وجوز الواحدي أن يكون مصدراً بمعنى الفتح وليس بالمتبادر‏.‏ وفي الكلام استعارة مكنية تخييلية، وتقديم الخبر لإفادة الحصر‏.‏ والمراد بالغيب المغيبات على سبيل الإستغراق، والمقصود على كل تقدير أنه سبحانه هو العالم بالمغيبات جميعها كما هي ابتداء‏.‏

‏{‏لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏مَفَاتِحُ‏}‏، والعامل فيها كما قال أبو البقاء ما تعلق به الظرف أو نفسه إن رفعت به، ويجوز أن يكون تأكيداً لمضمون ما قبله، والكلام إما مسوق لبيان اختصاص المقدورات الغيبية به سبحانه من حيث العلم إثر بيان اختصاص كلها به تعالى من حيث القدرة، والمعنى أن ما تستعجلون به من العذاب ليس مقدوراً لي حتى ألزمكم بتعجيله ولا معلوماً لديَّ حتى أخبركم بوقت نزوله بل هو مما يختص به جل شأنه قدرة وعلماً فينزله حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم، وإما لإثبات العلم العام له سبحانه وهو علمه بكل شيء بعد إثبات العلم الخاص وهو علمه بالظالمين، وذكر الإمام «أن معنى الآية على تقدير أن يراد بالمفاتح الخزائن أنه سبحانه القادر على جميع الممكنات كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ مفاتح الغيب خمس وتلا ‏{‏إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏ الآية، وروي نحوه عن ابن مسعود، وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً نحو ذلك، ولعل الحمل على الاستغراق أولى، وما في الأخبار يحمل على بيان البعض المهم لا على دعوى الحصر إذ لا شبهة في أن ما عدا الخمس من المغيبات لا يعلمه أيضاً إلا الله تعالى‏.‏

‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِى البر والبحر‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ‏}‏ الخ أو على الجملة قبله وهو ظاهر على تقدير حاليتها، وإما على تقدير كونها تأكيداً فقد منعه البعض لأن المعطوف لا يصلح للتأكيد ولو كان علمه سبحانه بالمغيبات عند المحققين المحقين على وجه التفصيل والاختصاص لأن علم الغيب والشهادة متغايران فلا يؤكد أحدهما الآخر‏.‏

نعم قيل‏:‏ من لم يجعلها مؤكدة جوز العطف عليها فيكون الجملتان مستأنفتين لتفصيل علمه سبحانه وشموله لا غير، وجوز أن يكون المجموع مؤكداً لاشتماله على مضمون ما قبله لأنه ليس توكيداً اصطلاحياً، والمراد من هذه الجملة كما قال غير واحد بيان تعلق علمه تعالى بالمشاهدات إثر بيان تعلقه بالمغيبات تكملة له وتنبيهاً على أن الكل بالنسبة إلى علمه المحيط سواء، والمراد من البر الصحراء ومن البحر خلافه، وفي «القاموس» أنه الماء الكثير أو الملح فقط ويجمع وجمعه أبحر وبحور وبحار وتصغيره أُبَيْحِر لا بُحَيْرُ»‏.‏ وعن مجاهد أن المراد بالبر القفار وبالبحر كل قرية فيها ماء وهو خلاف الظاهر، وأياً ما كان فالمعنى يعلم ما فيهما من الموجودات مفصلة على اختلاف أجناسها وأنواعها وتكثر أفرادها‏.‏

‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا‏}‏ أي وما تسقط ورقة من أي شجرة كانت إلا عالماً بها، فمن زائدة في الفاعل، والجملة بعد ‏(‏إلا‏)‏ في موضع الحال منه، وجاءت الحال من النكرة لاعتمادها على النفي، والتفريغ في الحال شائع سائغ‏.‏ وجوز أن تكون في موضع النعت للنكرة، والكلام مسوق كما قيل لبيان تعلق علمه تعالى بأحوال المشاهدات المتغيرة بعد بيان تعلقه بذواتها فإن تخصيص حال السقوط بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاء بذكرها عن ذكر سائر الأحوال كما أن ذكر أحوال الورقة وما عطف عليها خاصة دون أحوال سائر ما في البر والبحر من الموجودات التي لا يحيط بها نطاق الحصر باعتبار أنها أنموذج لأحوال سائرها، قيل‏:‏ ولعل الاكتفاء بحال السقوط دون الاكتفاء بغيرها من الأحوال لشدة ملاءمتها لما سيأتي إن شاء الله تعالى في آية التوفي، ولأن التغيير فيها أظهر فهو أوفق بما سيقت له الآية، وقيل‏:‏ لأن العلم بالسقوط لكونه من الأحوال الساقطة التي يغفل عنها يستلزم العلم بغيره من الأحوال المعتنى بها فتدبر، فكأنه قيل‏:‏ وما تتغير ورقة من حال إلى حال إلا يعلمها‏.‏

‏{‏وَلاَ حَبَّةٍ‏}‏ عطف على ‏{‏وَرَقَةٍ‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِى ظلمات الارض‏}‏ متعلق بمحذوف وقع صفة لحبة مفيدة لكمال ظهور علمه تعالى، والمراد من ظلمات الأرض بطونها، وكني بالظلمة عن البطن لأنه لا يدرك فيه كما لا يدرك في الظلمة‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد ظلمات الأرض ما تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع أو تحت حجر أو شيء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ‏}‏ عطف على ‏{‏وَرَقَةٍ‏}‏ أيضاً داخل معها في حكمها، والمراد بالرطب واليابس رطب ويابس من شأنهما السقوط كالثمار مثلاً لاقتضاء العطف ذلك‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ‏}‏ كالتكرير لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ يَعْلَمُهَا‏}‏ لأن معناهما واحد في المآل سواء أريد بالكتاب المبين علمه تعالى أو اللوح المحفوظ الذي هو محل معلوماته سبحانه، وإلى هذا ذهب الزمخشري وأراد كما قال السعد‏:‏ أنه تكرير من جهة المعنى، وأما من جهة اللفظ فهو صفة للمذكورات كما أن ‏{‏إِلاَّ يَعْلَمُهَا‏}‏ صفة لورقة‏.‏ وأورد عليه بأن صفة شيء كيف تكون تكريراً لصفة شيء آخر معنى‏.‏ وأجيب بأنه غير وارد لأن الورقة داخلة في الرطب واليابس فلا تغاير بحسب المعنى فيصح ما ذكر، وقيل‏:‏ إنه بدل من الاستثناء الأول بدل الكل إن فسر الكتاب بالعلم وبدل الاشتمال إن فسر باللوح وفيه تأمل‏.‏ وقرىء ‏{‏وَلاَ حَبَّةٍ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ‏}‏ بالرفع على العطف على محل ‏{‏وَرَقَةٍ‏}‏ وخص بعضهم هذه القراءة بالأخيرين‏.‏

وجوز أن يكون الرفع على الابتداء والخبر ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب‏}‏ قيل هو الأنسب بالمقام لشمول الرطب واليابس حينئذٍ لما ليس من شأنه السقوط‏.‏ وقد جعلهما غير واحد شاملين لجميع الأشياء لأن الأجسام كلها لا تخلو من أن تكون رطبة أو يابسة ويدخل في ذلك الحار والبارد، والمراد من كل معناه اللغوي لا مصطلح الأطباء كما لا يخفى‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالرطب ما ينبت وباليابس ما لا ينبت‏.‏ وفي رواية أخرى عنه أن الأول الماء والثاني الثرى‏.‏ وروى أبو الشيخ عنه ما يفيد العموم، ولعله الأولى بالقبول، وقيل‏:‏ الرطب الحي واليابس الميت‏.‏

وروى الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ الورقة السقط والحبة الولد وظلمات الأرض الأرحام والرطب ما يحيى واليابس ما يغيض، وأنا أجل أبا عبد الله رضي الله تعالى عنه عن التفوه بهذا التفسير إذ هو خلاف الظاهر جداً، ومثله في عدم التبادر ما أخرجه أبو الشيخ عن محمد بن جحادة أنه قال‏:‏ إن لله تعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده، وذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ‏}‏ ثم إن تفسير الكتاب باللوح هو الذي مشى عليه جماعة من المفسرين منهم الزجاج فقد قال‏:‏ إنه تعالى أثبت المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 22‏]‏ وفي رواية لمسلم‏:‏ «إن الله تعالى كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماء والأرض بخمسين ألف سنة»‏.‏ وفائدة ذلك أمور‏:‏ أحدها‏:‏ اعتبار الملائكة عليهم السلام موافقات المحدثات للمعلومات الإلهية‏.‏ وثانيها‏:‏ وعليه اقتصر الحسن تنبيه المكلفين على عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب حيث ذكر أن الورقة والحبة في الكتاب‏.‏

وثالثها‏:‏ عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق في الكتاب، ولذا جاء «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة»، وهذا الكتاب يسمى اللوح المحفوظ لحفظه عن التحريف ووصول الشياطين إليه أو من المحو والإثبات بناءً على أنهما إنما يكونان في صحف الملائكة دونه‏.‏ والبلخي اختار أن معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى كتاب مُّبِينٍ‏}‏ أنه محفوظ غير منسي ولا مغفول عنه، كما يقول القائل لغيره ما تصنع مسطور مكتوب عندي فإنه إنما يريد أنه حافظ له يريد مكافأته عليه‏.‏ وأنشد لذلك‏:‏ إن لسلمى عندنا ديواناً *** وذكر الإمام ههنا ما سماه «دقيقة، وهو أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن قضايا الحس والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة وهم كالكبريت الأحمر ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب‏}‏ من تلك القضايا وحيث أريد إيصالها إلى كل عقل لأن القرآن إنما نزل لينتفع به جميع الخلق ذكر مثال من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهوماً لكل واحد فذكر ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِى البر والبحر‏}‏ ليكشف به عن حقيقة عظمة ذلك المعقول‏.‏ وقدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحواله وكثرة ما فيه‏.‏

وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب فإذا استحضر الخيال معلومات البر والبحر وعرف أن مجموعها حقير من جنب ما دخل في دائرة عموم ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب‏}‏ يصير ذلك مقوياً ومكملاً للعظمة الحاصلة تحت ذلك، ثم كشف سبحانه عن عظمة البر والبحر بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا‏}‏، وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في الأرض من المدن والقرى والمفاوز والمهالك ثم يستحضر كم فيها من النجم والشجر ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة إلا والحق يعلمها، ثم ذكر مثالاً أشد هيبة وهو ‏{‏وَلاَ حَبَّةٍ‏}‏ الخ‏.‏ وذلك لأن الحبة تكون في غاية الصغر و‏{‏ظلمات الارض‏}‏ يخفى فيها أكبر الأجسام وأعظمها فإذا سمع العاقل أن تلك الحبة الصغيرة الملقاة في ظلمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج من علمه سبحانه انتبه غاية الانتباه وفاز من مجموع ذلك بالحظ الأوفر من المعنى المشار إليه في صدر الآية، ثم إنه تعالى لما قوى ذلك المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيات المحسوسة عاد إلى ذكر تلك القضية بعبارة أخرى وهي قوله عز اسمه‏:‏ ‏{‏وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كتاب‏}‏ فإنه عين ما تقدم2‏.‏

وهذا مبني على أحد الوجوه في الآية فلا تغفل، وفيها دليل على أن الله تعالى عالم بالجزئيات‏.‏ ونسبت المخالفة فيه للفلاسفة، والحق أنهم لا ينكرون ذلك وإنما ينكرون علمه سبحانه بها بوجه جزئي وهو بحث طويل الذيل، وكذا بحث علمه تعالى من حيث هو‏.‏ وقد ألفت فيه الرسائل وصار معترك أفهام الأواخر والأوائل وسبحان من لا يقدر قدره غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل‏}‏ أي ينيمكم فيه كما نقل عن الزجاج والجبائي، ففيه استعارة تبعية حيث استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهما من المشاركة في زوال إحساس الحواس الظاهرة والتمييز، قيل‏:‏ والباطنة أيضاً، وأصله قبض الشيء بتمامه، ويقال‏:‏ توفيت الشيء واستوفيته بمعنى‏.‏

‏{‏وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار‏}‏ أي ما كسبتم وعملتم فيه من الإثم كما أخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة، وهو الذي يقتضيه سياق الآية فإنه للتهديد والتوبيخ، ولهذا أوثر ‏{‏يتوفاكم‏}‏ على ينيمكم ونحوه و‏{‏جَرَحْتُم‏}‏ على كسبتم إدخالاً للمخاطبين الكفرة في جنس جوارح الطير والسباع، وبعضهم يجعل الخطاب عاماً والمراد من الليل والنهار الجنس المتحقق في كل فرد من أفرادهما؛ إذ بالتوفي والبعث الموجودين فيهما يتحقق قضاء الأجل المسمى المترتب عليهما، والباء في الموضعين بمعنى في كما أشرنا إليه‏.‏ والمراد بعلمه سبحانه ذلك كما قيل‏:‏ علمه قبل الجرح كما يلوح به تقديم ذكره على البعث أي يعلم ما تجرحون ‏(‏ بالنهار‏)‏ وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، وتخصيص التوفي بالليل والجرح بالنهار للجري على السنن المعتاد وإلا فقد يعكس‏.‏

‏{‏ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ‏}‏ أي يوقظكم في النهار، وهل هو حقيقة في هذا المعنى أو مجاز فيه قولان‏.‏ والمتبادر منه في عرف الشرع إحياء الموتى في الآخرة وجعلوه ترشيحاً للتوفي وهو ظاهر جداً على المتبادر في عرف الشرع لاختصاصه بالمشبه به‏.‏ ويقال على غيره‏:‏ إنه لا يشترط في الترشيح اختصاصه بالمشبه به بل أن يكون أخص به بوجه كما قرروه في قوله‏:‏ له لبد أظفاره لم تقلم *** والبعث في الموتى أقوى لأن عدم الإحساس فيه كذلك فإزالته أشد‏.‏ وقد صرحوا أيضاً أن الترشيح يجوز أن يكون باقياً على حقيقته تابعاً للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتها ويجوز أن يكون مستعاراً من ملائم المستعار منه لملائم المستعار له، والجملة عطف على ‏{‏يتوفاكم‏}‏ وتوسيط ‏{‏وَيَعْلَمَ‏}‏ الخ بينهما لبيان ما في بعثهم من عظيم الإحسان إليهم بالتنبيه على أن ما يكسبونه من الإثم مع كونه مما يستأهلون به إبقاءهم على التوفي بل إهلاكهم بالمرة يفيض سبحانه عليهم الحياة ويمهلهم كما ينبىء عنه كلمة التراخي كأنه قيل‏:‏ هو الذي يتوفاكم في جنس الليالي ثم يبعثكم في جنس الأنهر مع علمه جل شأنه بما ترتكبون فيها‏.‏

‏{‏ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى‏}‏ معين لكل فرد وهو أجل بقائه في الدنيا، وتكلف الزمخشري في تفسير الآية فجعل ضمير ‏{‏فِيهِ‏}‏ جارياً مجرى اسم الإشارة عائداً على مضمون كونهم متوفين وكاسبين و‏{‏فِى‏}‏ بمعنى لام العلة كما في قولك‏:‏ فيم دعوتني‏؟‏ والأجل المسمى هو الكون في القبور أي ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ومن أجله ليقضى الأجل الذي سماه سبحانه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم، وما ذكرناه هو الذي ذهب إليه الزجاج والجبائي وغالب المفسرين وهو عري عن التكلف الذي لا حاجة إليه‏.‏

وزعم بعضهم أن الداعي إليه هو أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار‏}‏ دال على حال اليقظة وكسبهم فيها، وكلمة ثم تقتضي تأخير البعث عنها فلهذا عدل الزمخشري إلى ما عدل إليه، وقال بعض المحققين‏:‏ إن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمَ‏}‏ الخ إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل والواو للحال ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي وأن الإيقاظ متأخر عن التوفي وأن قولنا‏:‏ يفعل ذلك التوفي لتقضى مدة الحياة المقدرة كلام منتظم غاية الانتظام، ولا يخفى أن فيه تكلفاً أيضاً مع أن واو الحال لا تدخل على المضارع إلا شذوذاً أو ضرورة في المشهور ووجه سنان التراخي المفاد بثم بأن حقيقة الإماتة في الليل تتحقق في أوله والإيقاظ متراخ عنه وإن لم يتراخ عن جملته واعترض بأنه حينئذٍ لا وجه لتوسيط ‏{‏وَيَعْلَمَ‏}‏ الخ بينهما وفيه نظر يعلم مما ذكرنا ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ‏}‏ سبحانه لا إلى غيره أصلاً ‏{‏مَرْجِعُكُمْ‏}‏ أي رجوعكم ومصيركم بالموت ‏{‏ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ بالمجازاة بأعمالكم التي كنتم داومتم على عملها في الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ فلا يعجزه أحد منهم ولا يحول بينه سبحانه وبين ما يريده فيهم، و‏{‏فَوْقَ‏}‏ نصب على الظرفية حال أو خبر بعد خبر، وقد تقدم الكلام مبسوطاً فيما للعلماء في هذه الآية ‏{‏وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً‏}‏ من الملائكة وهم الكرام الكاتبون المذكورون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَاماً كاتبين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 10، 11‏]‏ أو المعقبات المذكورة في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏، وقيل‏:‏ المراد ما يشمل الصنفين، ويقدر المحفوظ الأعمال والأنفس والأعم‏.‏ وعن قتادة يحفظون العمل والرزق والأجل‏.‏ والذي ذهب إليه أكثر المفسرين المعنى الأول في الحفظة، وهم عند بعض يكتبون الطاعات والمعاصي والمباحات بأسرها كما يشعر بذلك ‏{‏مَا لهذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏ وجاء في الأثر تفسير الصغيرة بالتبسم والكبيرة بالضحك و‏{‏مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 18‏]‏ وقال آخرون‏:‏ لا يكتبون المباحات إذ لا يترتب عليها شيء‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مع كل إنسان ملكين أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار‏:‏ لتنتظره لعله يتوب منها فإن لم يتب كتب عليه والمشهور أنهما على الكتفين، وقيل‏:‏ على الذقن، وقيل‏:‏ في الفم يمينه ويساره‏.‏ واللازم الإيمان بهما دون تعيين محلهما والبحث عن كيفية كتابتهما، وظواهر الآيات تدل على أن اطلاع هؤلاء الحفظة على الأقوال والأفعال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 18‏]‏ الخ، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 12‏]‏ وأما على صفات القلوب كالإيمان والكفر مثلاً فليس في الظواهر ما يدل على اطلاعهم عليها، والأخبار بعضها يدل على الاطلاع كخبر «إذا هم العبد بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة» فإن الهم من أعمال القلب كالإيمان والكفر، وبعضها يدل على عدم الاطلاع كخبر «إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف محكمة فيقول الله تعالى اقبلوا هذا وردوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل فيقول سبحانه‏:‏ إن عمله كان لغيري وإني لا أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي» وفي رواية مرسلة لابن المبارك «إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى فيستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص في عمله فاجعلوه في سجين» الحديث‏.‏ والقائل بأنهم لا يكتبون إلا الأعمال الظاهرة يقول‏:‏ معنى كتبت في حديث الهم بالحسنة ثبتت عندنا وتحققت لا كتبت في صحف الملائكة‏.‏

والقائل بأنهم يكتبون الأعمال القلبية يقول باستثناء الرياء فيكتبون العمل دونه ويخفيه الله تعالى عنهم ليبطل سبحانه به عمل المرائي بعد كتابته إما في الآخرة أو في الدنيا زيادة في تنكيله وتفظيع حاله، ولعل هذا كما يفعل به يوم القيامة من رده إلى النار بعد تقريبه من الجنة‏.‏

فقد روى أبو نعيم والبيهقي وابن عساكر وابن النجار أنه «يؤمر بناس يوم القيامة إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله تعالى لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها فيقولون‏:‏ ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا قال‏:‏ ذلك أردت بكم يا أشقياء كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما تعطوني من قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلوني وتركتم للناس ولم تتركوا لي فاليوم أذيقكم العذاب مع ما حرمتم من الثواب» والكل عندي محتمل ولا قطع فتدبر‏.‏

واختلفوا في أن الحفظة هل يتجددون كل يوم وليلة أم لا‏؟‏ فقيل‏:‏ إنهم يتجددون وملائكة الليل غير ملائكة النهار دائماً إلى الموت، وقيل‏:‏ إن ملائكة الليل يذهبون فتأتي ملائكة النهار ثم إذا جاء الليل ذهبوا ونزل ملائكة الليل الأولون لا غيرهم وهكذا، وقيل‏:‏ إن ملائكة الحسنات يتجددون دون ملائكة السيئات وهو الذي يقتضيه حسن الظن بالله تعالى‏.‏ واختلف في مقرهم بعد موت المكلف فقيل‏:‏ يرجعون مطلقاً إلى معابدهم في السماء، وقيل‏:‏ يبقون حذاء قبر المؤمن يستغفرون له حتى يقوم من قبره‏.‏ وصحح غير واحد أن كاتب الحسنات لا ينحصر في واحد لحديث ‏"‏ رأيت كذا وكذا يبتدرونها أيهم يكتبها أول ‏"‏ والحكمة في هؤلاء الحفظة «أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن تعاطي المعاصي والقبائح» وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على ستره وعفوه لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه، وقول الإمام‏:‏ «يحتمل أن تكون الفائدة في الكتابة أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة لأن وزن الأعمال غير ممكن» بخلاف وزن الصحائف فإنه ممكن ليس بشيء كما لا يخفى، والقول بوزن الصحائف أنفسها قول لبعضهم، هذا ‏{‏وَيُرْسِلُ‏}‏ إما مستأنف أو عطف على ‏{‏القاهر‏}‏ لأنه بمعنى الذي يقهر، وعطفه كما زعم أبو البقاء على ‏{‏يتوفاكم‏}‏ وما بعده من الأفعال المضارعة ليس بشيء كاحتمال جعله حالاً من الضمير في ‏{‏القاهر‏}‏ أو في الظرف لأن الواو الحالية كما أشرنا إليه آنفاً لا تدخل على المضارع، وتقدير المبتدأ لا يخرجه عن الشذوذ على الصحيح، و‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستيلاء، وتقديمه على المفعول الصريح لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقيل‏:‏ هو متعلق بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏حَفَظَةً‏}‏ إذ لو تأخر لكان صفة أي كائنين عليكم‏.‏

وقيل‏:‏ متعلق بحفظة وهو جمع حافظ ككتبة وكاتب‏.‏ و‏{‏حتى‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت‏}‏ هي التي يبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها كأنه قيل‏:‏ ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما يحفظون منكم مدة حياتكم حتى إذا انتهت مدة أحدكم وجاء أسباب الموت ومباديه ‏{‏تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا‏}‏ الآخرون المفوض إليهم ذلك وانتهى هناك حفظ الحفظة؛ والمراد بالرسل على ما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أعوان ملك الموت، ونحوه ما أخرجاه عن قتادة قال‏:‏ إن ملك الموت له رسل يباشرون قبض الأرواح ثم يدفعونها إلى ملك الملك‏.‏

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الكلبي أن ملك الموت هو الذي يلي ذلك ثم يدفع الروح إن كانت مؤمنة إلى ملائكة الرحمة وإن كانت كافرة إلى ملائكة العذاب‏.‏ والأكثرون على أن المباشر ملك الموت وله أعوان من الملائكة، وإسناد الفعل إلى المباشر والمعاون معاً مجاز كما يقال بنو فلان قتلوا قتيلاً والقاتل واحد منهم، وقد جاء إسناد الفعل إلى ملك الموت فقط باعتبار أنه المباشر وإلى الله تعالى باعتبار أنه سبحانه الآمر الحقيقي‏.‏ وقد أشرنا فيما تقدم أن بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم قال‏:‏ إن المتوفي تارة يكون هو الله تعالى بلا واسطة وتارة الملك وتارة الرسل وغيره وذلك حسب اختلاف أحوال المتوفى‏.‏ وعن الزجاج وهو غريب أن المراد بالرسل هنا الحفظة فيكون المعنى يرسلهم للحفظ في الحياة والتوفي عند مجىء الممات‏.‏ وقرأ حمزة «توفاه» بألف ممالة‏.‏ وقرىء في الشواذ «تتوفاه2‏.‏

‏{‏وَهُمْ‏}‏ أي الرسل ‏{‏لاَ يُفَرّطُونَ‏}‏ بالتواني والتأخير‏.‏

وقرأ الإعرج ‏{‏يُفَرّطُونَ‏}‏ بالتخفيف من الإفراط‏.‏ وهو مجاوزة الحد وتكون بالزيادة والنقصان أي لا يجاوزون ما حد لهم بزيادة أو نقصان، والجملة حال من ‏{‏رُسُلُنَا‏}‏ وقيل‏:‏ مستأنفة سبقت لبيان اعتنائهم بما أمروا به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ رُدُّواْ‏}‏ عطف على ‏{‏تَوَفَّتْهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 61‏]‏ والضمير كما قيل للكل المدلول عليه بأحد وهو السر في مجيئه بطريق الالتفات، والإفراد أولاً والجمع آخراً لوقوع التوفي على الإنفراد والرد على الاجتماع‏.‏ وذهب بعض المحققين أن فيه التفاتاً من الخطاب إلى الغيبة ومن التكلم إليها لأن الرد يناسبه الغيبة بلا شبهة وإن لم يكن الرد حقيقة لأنهم ماخرجوا من قبضة حكمه سبحانه طرفة عين‏.‏ ونقل الإمام القول بعود الضمير على الرسل أي أنهم يموتون كما يموت بنو آدم، والأول هو الذي عليه غالب المفسرين‏.‏ والمراد‏:‏ ثم ردوا بعد البعث والحشر أو من البرزخ ‏{‏إِلَى الله‏}‏ أي إلى حكمه وجزائه أو إلى موضع العرض والسؤال ‏{‏مولاهم‏}‏ أي مالكهم الذي يلي أمورهم على الإطلاق ولا ينافي ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 11‏]‏ لأن المولى فيه بمعنى الناصر ‏{‏الحق‏}‏ أي العدل أو مظهر الحق أو الصادق الوعد‏.‏

وذكر حجة الإسلام قدس سره أن الحق مقابل الباطل وكل ما يخبر عنه فإما باطل مطلقاً وإما حق مطلقاً وإما حق من وجه باطل من وجه، فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقاً والواجب بذاته هو الحق مطلقاً والممكن بذاته الواجب بغيره حق من وجه باطل من وجه، فمن حيث ذاته لا وجود له فهو باطل ومن جهة غيره مستفيد للوجود فهو حق من الوجه الذي يلي مفيد الوجود، فمعنى الحق المطلق هو الموجود الحقيقي بذاته الذي منه يؤخذ كل حقيقة وليس ذلك إلا الله تعالى، وهذا هو مراد القائل إن الحق هو الثابت الباقي الذي لا فناء له‏.‏

وفي «التفسير الكبير» «أن لفظ المولى والولي مشتقان من ‏[‏الوَلْيُ‏:‏ أي‏]‏ القرب وهو سبحانه القريب ‏(‏البعيد‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ ‏(‏1‏)‏ ويطلق المولى أيضاً على المعتق وذلك كالمشعر بأنه جل شأنه أعتقهم من العذاب وهو المراد من قوله سبحانه «سبقت رحمتي غضبي» وأيضاً أضاف نفسه إلى العبيد وما أضافهم إلى نفسه وذلك نهاية الرحمة، وأيضاً قال عز اسمه‏:‏ ‏{‏مولاهم الحق‏}‏ والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏ فلما مات الإنسان تخلص من تصرفات الموالي الباطلة وانتقل إلى تصرف المولى الحق» انتهى‏.‏ وهو كما ترى‏.‏

وادعى «أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن الإنسان ليس عبارة عن مجرد هذه البنية لأن صريحها يدل على حصول الموت للعبد ويدل على أنه بعد الموت يرد إلى الله تعالى والميت مع كونه ميتاً لا يمكن أن يرد إلى الله تعالى لأن ذلك الرد ليس بالمكان والجهة لتعاليه سبحانه عنهما بل يجب أن يكون مفسراً بكونه منقاداً لحكم الله تعالى مطيعاً لقضائه وما لم يكن حياً لا يصح هذا المعنى فيه فثبت أنه حصل ههنا موت وحياة أما الموت فنصيب البدن فتبقى الحياة نصيب الروح ولما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏رُدُّواْ‏}‏ وثبت أن المردود هو الروح ثبت أن الإنسان ليس إلا هي وهو المطلوب، وكذا تشعر بكون الروح موجودة قبل التعلق بالبدن لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال إنما يكون لو كانت موجودة كذلك، ونظيره قوله سبحانه

‏{‏ارجعى إلى رَبّكِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 28‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏ ولا يخفى ما في ذلك فتدبر‏.‏ وقرىء ‏{‏الحق‏}‏ بالنصب على المدح‏.‏ وجوز أن يكون على أنه صفة للمفعول المطلق أي الرد الحق فلا يكون حينئذ المراد به الله عز وجل والأول أظهر‏.‏

‏{‏أَلاَ لَهُ الحكم‏}‏ يومئذ صورة ومعنى لا لغيره بوجه من الوجوه‏.‏ واستدل بذلك على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب إذ لو ثبت ذلك لثبت للمطيع على الله تعالى حكم وهو أخذ الثواب وهو ينافي ما دلت عليه الآية من الحصر ‏{‏وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين‏}‏ يحاسب جميع الخلائق بنفسه في أسرع زمان وأقصره، ويلزم هذا أن لا يشغله حساب عن حساب ولا شأن عن شأن‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ أنه تعالى يحاسب الكل في مقدار حلب شاة ‏"‏‏.‏ وفي بعض الأخبار ‏"‏ في مقدار نصف يوم ‏"‏‏.‏ وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يحاسب الخلق بنفسه بل يأمر سبحانه الملائكة عليهم السلام فيحاسب كل واحد منهم واحداً من العباد‏.‏ وذهب آخرون إلى أنه عز وجل إنما يحاسب المؤمنين بنفسه وأما الكفار فتحاسبهم الملائكة لأنه تعالى لو حاسبهم لتكلم معهم وذلك باطل لقوله تعالى في صفتاهم‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُكَلّمُهُمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 174‏]‏ وأجاب الأولون عن هذا بأن المراد أنه تعالى لا يكلمهم بما ينفعهم فإن ظواهر الآيات ومنها ما تقدم في هذه السورة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 22‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هذا بالحق قَالُواْ بلى وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 30‏]‏ تدل على تكليمه تعالى لهم في ذلك اليوم، ثم إن كيفية ذلك الحساب مما لا تحيط بتفصيلها عقول البشر من طريق الفكر أصلاً وليس لنا إلا الايمان به مع تفويض الكيفية وتفصيلها إلى عالم الغيب والشهادة‏.‏

«وادعى الفلاسفة أن كثرة الأفعال وتكررها يوجب حدوث الملكات الراسخة وأنه يجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة بل يجب أن يكون لكل جزء من أجزاء العمل الواحد أثر بوجه ما في ذلك وحينئذ يقال‏:‏ إن الأفعال الصادرة من اليد هي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة وكذلك الأفعال الصادرة من اليد هي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة وكذلك الأفعال الصادرة من الرجل فتكون الأيدي والأرجل شاهدة على الإنسان بمعنى أن تلك الآثار النفسانية إنما حصلت في جواهر النفوس بواسطة هذه الأفعال الصادرة عن هذه الجوارح فكان ذلك الصدور جارياً مجرى الشهادة بحصول تلك الآثار في جواهر النفس‏.‏

وأما الحساب فالمقصود منه استعلام ما بقي من الدخل والخرج، ولما كان لكل ذرة من الأعمال أثر حسن أو قبيح حسب حسن العمل وقبحه ولا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة فلا جرم كان بعضها معارضاً بالبعض وبعد حصول المعارضة يبقى في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد وقدر آخر من الذميم فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك وهو إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم وهو الآن الذي فيه فيقطع فيه تعلق النفس من البدن فعبر عن هذه الحالة بسرعة الحساب»، وزعم من نقل هذا عنهم أنه من تطبيق الحكمة النبوية على الحكمة الفلسفية، وأنا أقول‏:‏ راحت مشرقة ورحت مغربا *** شتان بين مشرق ومغرب